فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107)}.
هذا مقابل قوله: {إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلًا} على عادة القرآن في ذكر البشارة بعد الإنذار.
وتأكيد الجملة للاهتمام بها لأنها جاءت في مقابلة جملة {إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا} وهي مؤكدة كي لا يظن ظانّ أن جزاء المؤمنين غير مهتم بتأكيده مع ما في التأكيديْن من تقوية الإنذار وتقوية البشارة.
وجعل المسند إليه الموصولَ بصلة الإيمان وعمل الصالحات للاهتمام بشأن أعمالهم، فلذلك خولف نظم الجملة التي تقابلها فلم يقل: جزاؤهم الجنّة.
وقد تقدّم نظير هذا الأسلوب في المخالف بين وصف الجزاءَين عند قوله تعالى في هذه السورة: {إنا أعتدنا للظالمين نارًا أحاط بهم سرادقها} [الكهف: 29] ثم قوله: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملًا} [الكهف: 30].
وفي الإتيان ب {فَكانت} دلالة على أن استحقاقهم الجنّات أمر مستقر من قبل مهيّأ لهم.
وجيء بلام الاستحقاق تكريمًا لهم بأنهم نالوا الجنة باستحقاق إيمانهم وعملهم.
كما قال تعالى: {وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون} [الزخرف: 72].
وجمع الجنّات إيماء إلى سعة نعيمهم، وأنها جنان كثيرة كما جاء في الحديث: «إنها جنان كثيرة».
والفردوس: البستان الجامع لكل ما يكون في البساتين، وعن مجاهد هو معرّب عن الرومية.
وقيل عن السريانية.
وقال الفراء: هو عربي، أي ليس معربًا.
ولم يرد ذكره في كلام العرب قبل القرآن.
وأهل الشام يقولون للبساتين والكروم: الفراديس.
وفي مدينة حلب باب يسمّى باب الفراديس.
وإضافة الجنات إلى الفردوس بيانية، أي جنات هي من صنف الفردوس.
وورد في الحديث أن الفردوس أعلى الجنّة أو وسط الجنّة.
وذلك إطلاق آخر على هذا المكان المخصوص يرجع إلى أنه علم بالغلبة.
فإن حُملت هذه الآية عليه كانت إضافة {جنات} إلى {الفردوس} إضافة حقيقية، أي جنات هذا المكان.
والنزُل: تقدم قريبًا.
وقوله: {لا يبغون عنها حولًا} أي ليس بعدما حوته تلك الجنات من ضروب اللّذات والتمتع ما تتطلع النفوس إليه فتود مفارقة ما هي فيه إلى ما هو خير منه، أي هم يجدون فيها كل ما يخامر أنفسهم من المشتهى.
والحِوَل: مصدر بوزن العِوج والصِغر.
وحرف العلة يصحح في هذه الصيغة لكن الغالب فيما كان على هذه الزنة مصدرا التصحيحُ مثل: الحِول، وفيما كان منها جمعًا الإعلال نحو: الحِيل جمع حِيلة.
وهو من ذوات الواو مشتق من التحول.
{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)}.
لما ابتدئت هذه السورة بالتنويه بشأن القرآن ثم أفيض فيها من أفانين الإرشاد والإنذار والوعد والوعيد، وذكر فيها من أحسن القصص ما فيه عبرة وموعظة، وما هو خفي من أحوال الأمم، حُول الكلام إلى الإيذان بأن كل ذلك قليل من عظيم علم الله تعالى.
فهذا استئناف ابتدائي وهو انتقال إلى التنويه بعلم الله تعالى مفيضضِ العلم على رسوله صلى الله عليه وسلم لأن المشركين لما سألوه عن أشياء يظنونها مفحمة للرسول وأن لا قبل له بعلمها علمه الله إياها، وأخبر عنها أصدق خبر، وبيّنها بأقصى ما تقبله أفهامهم وبما يقصر عنه علم الذين أغروا المشركين بالسؤال عنها، وكان آخرها خبر ذي القرنين، أتبع ذلك بما يعلم منه سعة علم الله تعالى وسعة ما يجري على وفق علمه من الوحي إذا أراد إبلاغ بعض ما في علمه إلى أحد من رسله.
وفي هذا رد عجز السورة على صدرها.
وقيل: نزلت لأجل قول اليهود لرسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تقول، أي في سورة الإسراء {وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا} وقد أوتينا التّوراة، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرًا كثيرًا.
وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالى: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا} في سورة الإسراء (85).
وقال الترمذي عن ابن عباس: قال حيي بن أخطب اليهودي: في كتابكم {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا} [البقرة: 269] ثم تقرأون: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا}، فنزل قوله تعالى: {قل لو كان البحر مدادًا لكلمات ربي} الآية.
وكلمات الله: ما يدلّ على شيء مِن علمه مما يوحي إلى رسله أن يبلغوه، فكل معلوم يمكن أن يخبر به. فإذا أخبر به صار كلمة، ولذلك يطلق على المعلومات كلمات، لأن الله أخبر بكثير منها ولو شاء لأخبر بغيره، فإطلاق الكلمات عليها مجاز بعلاقة المآل.
ونظيرها قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ} [لقمان: 27].
وفي هذا دليل لإثبات الكلام النفسي ولإثبات التعلّق الصلوحي لصفة العلم.
وقل من يتنبه لهذا التعلّق.
ولما كان شأن ما يُخبِر الله به على لسان أحد رسله أن يكتَب حرصًا على بقائه في الأمة، شبهت معلومات الله المخبَر بها والمطلق عليها كلمات بالمكتوبات، ورُمز إلى المشبه به بما هو من لوازمه وهو المِداد الذي به الكتابة على طريقة المكنية، وإثبات المداد تخييل كتخيُّل الأظفار للمنية.
فيكون ما هنا مثل قوله تعالى: {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله} فإن ذكر الأقلام إنما يناسب المداد بمعنى الحِبر.
ويجوز أن يكون هنا تشبيه كلمات الله بالسراج المضيء، لأنه يهدي إلى المطلوب، كما شبه نور الله وهديُه بالمصباح في قوله تعالى: {مثل نوره كمشكاة فيها مصباح} [النور: 35] ويكون المداد تخييلًا بالزيت الذي يمد به السراج.
والمدَاد يطلق على الحِبر لأنه تُمَد به الدواة، أي يمد به ما كان فيها من نوعه، ويطلق المداد على الزيت الذي يمد به السراج وغلب إطلاقه على الحبر.
وهو في هذه الآية يحتمل المعنيين فتتضمّن الآية مكنيتين على الاحتمالين.
واللام في قوله: {لكلماته} لام العلّة، أي لأجل كلمات ربي.
والكلام يؤذن بمضاف محذوف، تقديره: لكتابة كلمات ربي، إذ المداد يراد للكتابة وليس البحر مما يكتب به ولكن الكلام بني على المفروض بواسطة لو.
والمداد: اسم لما يمد به الشيء، أي يزاد به على ما لديه.
ولم يقل مدادًا، إذ ليس المقصود تشبيهه بالحبر لحصول ذلك بالتشبيه الذي قبله وإنما قصد هنا أن مثله يمده.
والنفاد: الفناء والاضمحلال، ونفاد البحر ممكن عقلًا.
وأما نفاد كلمات الله بمعنى تعلقات علمه فمستحيل، فلا يفهم من تقييد نفاد كلمات الله بقيد الظرف وهو {قَبْلَ} إمكان نفاد كلمات الله؛ ولكن لما بُني الكلام على الفرض والتقدير بما يدل عليه لو كان المعنى لو كان البحر مدادًا لكلمات ربي وكانت كلمات ربي مما ينفد لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربّي.
وهذا الكلام كناية عن عدم تناهي معلومات الله تعالى التي منها تلك المسائل الثلاث التي سألوا عنها النبي صلى الله عليه وسلم فلا يقتضي قوله: {قبل أن تنفد كلمات ربي} إن لكلمات الله تعالى نفادًا كما علمته.
وجملة {ولو جئنا بمثله مددًا} في موضع الحال.
و{لو} وصلية، وهي الدالة على حالة هي أجدر الأحوال بأن لا يتحقق معها مفاد الكلام السابق فيُنبّه السامع على أنها متحقق معها مُفاد الكلام السابق.
وقد تقدم عند قوله تعالى: {فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبًا ولو افتدى به} في سورة آل عمران (91)، وهذا مبالغة ثانية.
وانتصب {مددًا} على التمييز المُفسر للإبهام الذي في لفظ {بِمِثله}، أي مثل البحر في الإمداد.
{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}.
استئناف ثان، انتقل به من التنويه بسعة علم الله تعالى وأنه لا يعجزه أن يوحي إلى رسوله بعلم كل ما يُسأل عن الإخبار به، إلى إعلامهم بأن الرسول لم يبعث للإخبار عن الحوادث الماضية والقرون الخالية، ولا أن من مقتضى الرسالة أن يحيط علم الرسول بالأشياء فيتصدى للإجابة عن أسئلة تُلقَى إليه، ولكنه بشَر عِلمه كعلم البشر أوحَى الله إليه بما شاء إبلاغه عبادهُ من التوْحيد والشريعة، ولا علم له إلاّ ما علّمه ربّه كما قال تعالى: {قل إنما أتبع ما يُوحى إليّ من ربّي} [الأعراف: 203].
فالحصر في قوله: {إنما أنا بشر مثلكم} قصر الموصوف على الصفة وهو إضافي للقلب، أي ما أنا إلاّ بشر لاَ أتجاوز البشرية إلى العلم بالمغيّبات.
وأدمج في هذا أهم ما يوحي إليه وما بعث لأجله وهو توحيد الله والسعي لما فيه السلامة عند لقاء الله تعالى.
وهذا من ردّ العجز على الصدر من قوله في أوّل السورة {لينذر بأسًا شديدًا من لدنه} إلى قوله: {إن يقولون إلا كذبًا} [الكهف: 2 5].
وجملة {يوحى إلي} مستأنفة، أو صفة ثانية لـ: {بشر}.
و{أنما} مفتوحة الهمزة أخت {إنما} المكسورة الهمزة وهي مركبة من أَنّ المفتوحة الهمزة و ما الكَافة كما ركبت {إنما} المكسورة الهمزة فتفيد ما تفيده أَنّ المفتوحة من المصدرية، وما تفيده {إنما} من الحصر، والحصر المستفاد منها هنا قصر إضافي للقلب.
والمعنى: يوحي الله إليّ توحيد الإله وانحصار وصفه في صفة الوحدانية دون المشاركة.
وتفريع {فمن كان يرجو لقاء ربه} هو من جملة الموحى به إليه، أي يوحَى إليّ بوحدانية الإله وبإثبات البعث وبالأعمال الصالحة.
فجاء النظم بطريقة بديعة في إفادة الأصول الثلاثة، إذ جعل التوحيد أصلًا لها وفرع عليه الأصلان الآخران، وأكد الإخبار بالوحدانية بالنّهي عن الإشراك بعبادة الله تعالى، وحصل مع ذلك ردّ العجز على الصدر وهو أسلوب بديع. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107)}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة- أن الأعمال الصالحة والإيمان سبب في نيل جنات الفردوس. والآيات الموضحة لكون العمل الصالح سببًا في دخول الجنة كثيرة جدًا. كقوله تعالى: {وَيُبَشِّرَ المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} [الكهف: 2-3]، وقوله: {أَن تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43] أي بسببه، وقوله تعالى: {وَتِلْكَ الجنة التي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72]. وقوله تعالى: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئًا جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدَ الرحمن عِبَادَهُ بالغيب} [مريم: 61] الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
تنبيه:
فإن قيل هذه الآيات فيها الدلالة على أن طاعة الله بالإيمان والعمل الصالح سبب في دخول الجنة. وقوله صلى الله عليه وسلم: «لن يدخل أحدكم عمله الجنة» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا يتغمدني الله برحمة منه وفضل» يرد بسببه إشكال على ذلك.
فالجواب- أن العمل لا يكون سبًا لدخول الجنة إلا إذا تقبله الله تعالى وتقبله له فضل منه. فالفعل الذي هو سبب لدخول الجنة هو الذي تقبله الله بفضله، وغيره من الأعمال لا يكون سببًا لدخول الجنة. والجمع بين الحديث والآيات المذكورة أوجه أخر، هذا أظهرها عند. والعم عند الله تعالى. وقد قدمنا أن النزل هو ما يهيأ من الإكرام للضيف أو القادم.
{خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)} أي خالدين في جنات الفردوس لا يبغون عنها حولًا، أي تحولًا إلى منزل آخر، لأنها لا يوجد منزل أحسن منها يرغب في التحول إليه عنها، بل هم خالدون فيها دائمًا من غير تحول ولا انتقال. وهذا المعنى المذكور هنا جاء موضحًا في مواضع أخر، كقوله: {الذي أَحَلَّنَا دَارَ المقامة} [فاطر: 35] أي الإقامة أبدًا، وقوله: {وَيُبَشِّرَ المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} [الكهف: 2-3]، وقوله: {إِنَّ هذا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ} [ص: 54]، وقوله: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على دوامهم فيها، ودوام نعيمها لهم، والحول: اسم مصدر بمعنى التحول.